شهدت أسعار النفط العالمية في الأشهر الأخيرة حالة من التقلب الشديد، مما أثار قلق المستثمرين والدول المنتجة والمستهلكة على حد سواء. وبينما تشير بعض التحليلات الاقتصادية إلى عوامل تقليدية مثل العرض والطلب أو مستويات المخزون، تتجه أصابع الاتهام بشكل متزايد إلى التغيّرات المتسارعة في العلاقات الدولية، التي باتت تؤثر بشكل مباشر على استقرار أسواق الطاقة.
منذ بداية عام 2025، تأرجح سعر خام برنت بين 72 و95 دولارًا للبرميل، فيما شهد خام غرب تكساس الوسيط تقلبات مماثلة. هذا التذبذب جاء على خلفية أحداث جيوسياسية متتالية، شملت تصاعد التوتر بين الصين والولايات المتحدة، وإعادة تشكيل التحالفات في منطقة الشرق الأوسط، واستمرار الحرب في أوكرانيا، فضلًا عن الاضطرابات السياسية في بعض الدول المنتجة للنفط في إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
تقول الخبيرة الاقتصادية الدكتورة ليلى الشامي، من معهد الاقتصاد الدولي في لندن: "لم تعد أسعار النفط ترتبط فقط بعوامل السوق المباشرة، بل أصبحت مرآة حساسة لأي تغير سياسي أو دبلوماسي في العالم. التغيّرات في طبيعة التحالفات، أو حتى العقوبات الاقتصادية، يمكن أن تُحدث صدمة فورية في الأسعار".
من أبرز العوامل السياسية التي أثرت على سوق النفط مؤخرًا، إعلان بعض الدول الغربية عن توسيع العقوبات المفروضة على روسيا، خصوصًا فيما يتعلق بصادرات الطاقة. ورغم محاولة موسكو تنويع أسواقها من خلال تعزيز علاقاتها مع دول آسيا، فإن تدفقات النفط تأثرت، ما أحدث تقلبًا في العرض العالمي.
في المقابل، شهدت العلاقات الأمريكية-السعودية تقاربًا حذرًا بعد فترة من الفتور، وهو ما انعكس في بعض التفاهمات غير المعلنة داخل منظمة "أوبك بلس" بشأن مستويات الإنتاج. وقد أثار ذلك التكهنات حول احتمال حدوث تنسيق في سياسات الإنتاج بما يخدم مصالح بعض الدول الكبرى.
من جهته، أشار تقرير صادر عن مركز الدراسات الطاقية في برلين إلى أن "النفط لم يعد مجرد سلعة اقتصادية، بل أصبح أداة استراتيجية تُستخدم للضغط السياسي أو التفاوض على ملفات أمنية وتجارية أوسع".
في الجانب الآخر من العالم، تُعد الصين أحد أبرز اللاعبين في معادلة الطلب النفطي. وقد شهدت العلاقات الصينية-الأمريكية توترًا جديدًا بسبب قضايا تتعلق بالتجارة والتكنولوجيا وتايوان، ما أدى إلى اضطرابات في الأسواق، نتيجة الخوف من تأثر الاقتصاد العالمي.
وعلى الرغم من أن بكين تواصل شراء كميات ضخمة من النفط، فإن تباطؤ نموها الاقتصادي وتوجّهها نحو الطاقة المتجددة يثيران الشكوك حول استدامة هذا الطلب. ومع تزايد الحديث عن "فكّ الارتباط" بين الاقتصادات الكبرى، تبدو الأسواق في حالة ترقّب مستمر.
يظل الشرق الأوسط منطقة حيوية في التأثير على أسعار النفط، ليس فقط لاحتوائه على أكبر الاحتياطيات، بل لأن استقراره مرتبط بشكل وثيق بأسعار الطاقة. وفي الآونة الأخيرة، أعادت بعض الدول الخليجية النظر في سياساتها الإقليمية، بينما سعت أخرى، مثل إيران، إلى تعزيز تحالفاتها مع الصين وروسيا.
وتأتي هذه التحركات في وقت يشهد فيه الإقليم محاولات متباينة للتهدئة، لكن في ظل استمرار بعض النزاعات، تظل الأسواق متوجسة من أي تصعيد قد يؤدي إلى تعطيل الإمدادات.
في هذا السياق المتوتر، باتت تحركات "أوبك بلس" تخضع لتدقيق شديد من الأسواق. فبينما تسعى المنظمة إلى الحفاظ على توازن السوق، تواجه تحديات كبيرة تتعلق باختلاف مصالح أعضائها، والضغوط الدولية، خاصة من الدول المستهلكة الكبرى.
في الأسبوع الماضي، اجتمعت دول "أوبك بلس" في فيينا وأعلنت الإبقاء على مستويات الإنتاج الحالية، مع وعد بإعادة التقييم في سبتمبر المقبل. وقد جاء هذا القرار وسط انقسام داخل المنظمة حول كيفية الاستجابة للتقلبات الحالية.
يرى العديد من المحللين أن تقلب أسعار النفط سيستمر في المستقبل المنظور، طالما استمرت العلاقات الدولية في حالتها الراهنة من التوتر وإعادة التشكيل. ويقول المحلل الأمريكي جون كارتر من مؤسسة "إنرجي ويك": "علينا أن نتوقع أن تظل أسعار النفط أداة تعكس ليس فقط التوازن الاقتصادي، بل أيضًا ديناميكيات السياسة العالمية".
ويضيف: "إذا لم يحدث نوع من الاستقرار في المشهد الدولي، ستبقى الأسواق معرضة للصدمات، وسيكون على الدول، سواء كانت منتجة أو مستهلكة، أن تضع سيناريوهات مرنة لاستراتيجياتها الطاقية".
في ظل عالم يشهد تحولات عميقة في العلاقات الدولية، يبدو أن أسعار النفط لن تعود إلى حالتها السابقة من الاستقرار النسبي. ومع استمرار استخدام الطاقة كسلاح سياسي، تظل تقلبات الأسعار واحدة من أبرز التحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي في السنوات القادمة.